الواحدة بتوقيت العاصفة

الواحدة بتوقيت العاصفة

رواية محمد صفوت


عمو لبيب بالتشيرت المونتيجو على المقهى ، يبدو لي وقد تجاوز الثمانين، بخاخة الربو لا تفارق يده ، يجلس وحيدا يتناول كوبا من الينسون ، لا يفارق المقهى الشهير بوسط القاهرة إلا عندما يغلق المقهى أبوابه ، حينها أراه يزحف ببطء إلى شقته القديمة القريبة من المقهى ووسط القاهرة والتي يستأجرها منذ الخمسينات من شركة التأمين التي كان يعمل بها. يعيش عمو لبيب وحيدا في هذه الشقة منذ أن رحلت زوجته قبل عشرين عاما ومنذ أن هاجر ابنه الوحيد إلى كندا قبل عشر سنوات.
راقبتُ عمو لبيب طويلا حتى أدركت عمق هواجسه ومخاوفه ، يخشى عمو لبيب أن يموت وحيدا ، دائما يأتيه هذا الهاجس ، ودائما كان يردد قبل أن ينام ، ستموت يا لبيب وحيداً ، سيكتشف الجيران موتك بعد أن تتسرب رائحتك النتنة إلى أنوفهم ، سينسى الناس كل مأثرك ، سينسون شهامتك ، سيرتك الطيبة ، سنواتك الطويلة التي قضيتها على الجبهة ، صورتك التي تعتز بها مع ناصر والمعلقة في مكان مميز بصالة بيتك ، سينسى الناس كل ذلك ولن تتبقى منك سوى رائحتك النتنة ، فيتأففون حين يهب اسمك على ذاكرة أحدهم فجأة.
الأن عمو لبيب على المقهى ، يتابع الدكتور شاكر عودة وهو عائد من الميدان بعد المشاركة في إحدى الفاعليات الثورية وسط تجمع من الثوريين ، يشير له الدكتور عودة من بعيد ، إشارة تنم عن معرفة قديمة ، وبمثلها يرد عمو لبيب التحية.
بعد تتبع سيرة كليهما تبين لي عمق هذه المعرفة القديمة ، ينتميان إلى نفس الجيل الواحد الذي عاش انتصارات وانكسارات عديدة ، شاهدا أمالا تشرق في سماء هذا البلد ثم تأفل وتختفي كأنها لم تكن ، تزاملا قديما في أحد الأحزاب اليسارية ، كما عاشا معاناة ومحنة السجن والاعتقال كرفيقين ، انزوى عمو لبيب بعيدا وآثر السلامة والهدوء ، فيما واصل الدكتور عودة طريقه النضالي بعد أن عركته الأيام ونضّجت تجربته السياسية ، فخلع رداءه القديم المهترىء ، وارتدى آخر عصريا يتناسب مع موضة السلطة وبالمقاس الذي حددته له ، فبدا الرجل في ثيابه الجديدة مثل بهلوان عجوز لا يصدق حركاته وقفاشاته أحد ، فيضطر أن يستعيد قفاشاته ونوادره القديمة حتى لا ينفض الناس من حوله ، عمو لبيب يعرف كل ذلك ، يعرف أن المناضل الكبير تحول إلى مجرد بهلوان يرقص على موائد السلطة العامرة بما لذل وطاب بعد أن ملت بطنه الطعام الجاف ، الديك اليساري الكبير تم تدجينه منذ زمن داخل الحظائر الآمنة ، هو بالكاد الأن دجاجة بائسة تلتقط ما يـُنثر لها من حب حتى تبقى دجاجة مهذبة ، وكل هذه اللمة من حوله لمة زائفة ، هم فقط يطمعون أن تشملهم الدجاجة برعايتها ، أن تفيض عليهم بما منحها الله من فيضه ، أن يتعلقوا بريشها ربما يدخلون معها الحظيرة .
عمو لبيب فيما أعتقد يكن احتراما رغم ذلك لتاريخ الدكتور عودة القديم ، وكثيرا ما أسمعه وهو يحدث نفسه حينما يرى سقطات رفيقه القديم " كان الله في عون مؤخرتك يا شاكر، تحملتْ أسياخ من الحديد تكفي لبناء عمارة كاملة.

السعر 70 جنية
ISBN: 978-977-786-154-0

إرسال تعليق

أحدث أقدم