أرض يعقوب رواية د.هاني عيد










 أرض يعقوب 

رواية د. هاني عيد 

دار غراب للنشر والتوزيع 

الفصل الرابع 

أيها الرب الإله، أعترف بأني أخطأت إليك في كلامي وأفعالي وأفكاري وتعدّيت على وصاياك  ، نور طريقي يا رب، وأحفظني و زوجي واولادي من شر كل شرير ، وأهدني يا رب طريقًا أبديًا، احفظ نفسي كما حفظت نفس عبدك أيوب، حول إرادتي نحو الرغبة في رضاك، تلك الإرادة المائلة للضعف، الحائرة حتى لا أسقط، عضدني يا رب حتى لا أهلك و أسكن الجحيم، انك معيني وناصري وملجأي وقت الضيق ،والمحارب معي فلن أجزع ولن أعاند ولن أرتد إلى الوراء، ، اتكل عليك واضعاً ثقتي بك لأنك لن تتركني ، أطلبك في سلطانك اسمك وفي حقي فتمد يديك لاحتياجي ، أسبحك ، يا ربي"

 بكت قبل أن تكمل:

 "لتكن يا رب إرادتك".

كانت تجلس على أحدي درجات المذبح، وعيناها معلقتان بصورة العذراء التي تتوسط الهيكل، قابضة بيد معروقة صليبها النحاسي الذي أتت به من بلدتها " جبل الطير " التابعة لمركز "سمالوط" محافظة "المنيا" عندما كانت في "دير العذراء" أهداها لها أحد القساوسة كانت مع أمها، لم تتجاوز العاشرة، احتفظت به أكثر من عشرين عاما، أخفته قديما حرصا على بقائه بعيدا عن عبث أخواتها، وأخفته حديثا مخافة اكتشافه من ولديها، وينفضح السر الذي أخفت، دائما لا يخلو عالمها من القيود والتضييق.

هنا فقط. 

تتحول الي غجرية حرة، تخلع عنها كل القيود التي ارتضت ان تحيا بها، وقنعت بتفاصيلها، وعاشت فيها، ملتزمة كممثل محترف، أتقن دوره حد الاندماج، لا تنكر حبها لهذا الدور وتحب من فيه، ولكنها تعيش فيه بجزء من كيانها ووجودها، أما الجزء المظلم الغير مرئي لا يظهر الا هنا في دير "سمعان الخراز".

حيث اللقاء الأول.

غادرت "سمالوط" لأول مرة  في زيارها لخالها "ملاك" في "منشأة ناصر" المتاخمة لجبل المقطم خالها "ملاك" أو "الريس استوبينة" كما يطلق عليه السائقين الذين يرتادوا ورشة السمكرة التي يؤجرها ،  كان فرحا بها أراد ان يطوف بها بر "مصر" زارت "الكنيسة المعلقة" و"حديقة الحيوان" و "أهرام الجيزة"  و دير "سمعان الخراز" في "المقطم" ، سمعت منه معجزة نقل الجبل التي تمت دحرا لمؤامرة اليهودي "ابن كلس" على يد "سمعان" الرجل  الصالح الذي تخصص في دباغة الجلود وتصليح الأحذية وحضرت إليه سيدة تطلب منه تصليح حذائها، فوقعت عيناه علي ساقها وهي تقوم بخلعه وأراد أن يعاقب نفسه فقام بقلع عينه ب"المخراز" منفذاً وصاية المسيح التي يقول فيها: 

"‬إن كانت عينك اليمني تعثرك، فاقلعها، وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك، ولا يلقي جسدك كله في جهنم" 

سامحه الكهنة على ما فعل بعدما نفذ وصية المسيح حرفيا.

قالت لنفسها:

 أو كلما اتينا ذنب بترنا الجزء الذي أذنب، حينها ما بقي منا شيء.  

التقط الحديث وقتها صديقه "عم جداوي" صاحب العربة الحديدية يبيع عليها الخروب والسوبيا على طريق الدير وهو يتقمص شخصية المرشد السياحي كما يشاهدهم وسمع منهم دوريا بطول جبل "المقطم".

 ان جبل "المقطم" يحتضن القاهرة كابنته، يحميها ويدافع عنها، "المقطم" هو الشيخ الشاهد على عز القاهرة وذلها ونصرها وكسرها ومكائدها، المقطم جواد كريم ضحى بما يملك من زروع وشجر ومياه، ضحى بكل شيء ونال ما يستحق ان يكون على سفحه غراس أهل الجنة، هو الجبل المقدس عند الجميع بكنائسه ومساجده.

لكنة "عم جداوي" تبدو صعيدية وان دارى، تعتقد انه من جنوب مصر وان أنكر، لم تندهش من انكاره وتهربه من سؤلها بقدر اندهاشها من هذا الشاب المتأنق الذي اقتحم تجمعهم، وعبارات الترحاب التي تبادلها مع خالها و "عم جداوي"، ونظرته المحدقة فيها وكأنها تسبر أغوارها:

 " تريزا بنت أختي"

 قالها الخال، مد يده اليها، ترددت، عانقت أصابعه الضخمة، ضاعت في كفه، كذوب لحم مرتعد، ترى ما اسمه قالت في نفسها.

  " ريمون"....

  أجابها كأنه قرأ ما يدور بخلدها، خافت أن يقرأ ما هو أكثر، أشاحت بوجهها عن عينيه الخضراوين النضرتين وقامته الشاهقة التي احتلت المكان، كشجرة عملاقة تحتويها وتضم نظراتها، 

 " ريمون"

كررت اسمه في سرها، ولكن ضمة شفتيها كاشفت وبينت لعين لم تغادر بعد تفاصيل وجهها، تخترق ملامحها، كمكتشف في أرض خطره، مزروعة بألف لغم، تلعثمت عندما انشغل عنها الشيخان، وصارت محاصرة، معتقلة تحت بريق عينيه، مطوقة تحت لهيب أنفاسه.

    اصطنعت الجدية لتفك الحصار، حركت قدميها التي احبت الغرس عند حدوده، طوحت بيديها، لتثبت انها غير مسلوبة الإرادة، وهمت أن تنصرف لتدخل الدير، بادرها بمنحها سعفة فاليوم "أحد الشعانين"، تشجعت على أخذها بابتسامة خالها الراضية 

 " ريمون ده أبني. زي ماجد بالضبط "

 قالها الخال موثقا لحالة من القبول نالت الاعتماد، لم تقل له:

 "وأين سعفتك "

 ولم يرد:

 " لقد كفته نظرتها فرحا الى ما بعد العيد"

 وكانت السعفة على شكل قلب، صدفة أو قدر.   

 انسحبت مؤقتا من جذب الذكريات، والزمن الذي مر ولم يغير، يبقى شغفها بالمكان حاضرا، أدت صلاتها كما تمنت، وأفرجت عما تبقى في صدرها من نزف وغادرت بعدما سطرت في ورقتها دعاءها بخط رديء، طوتها في غير اتقان ومنحتها للقديس تبركا ورجوة.

وخرجت لتجد زوجها في انتظارها 

الي جوار "عم جداوي"

 الذي لم يتغير سوى من شيب تناثر على فوديه وصلع غزا ناصيته، ولم تغير جلسته الأيام، اللهم الا سقيفة من الخوص سمح له ببنائها والنوم فيها، تغطيها فرش من بلاستيك وخيش، تدفع عنه المطر والقيظ.

 اهداه الانبا "اسطفانيوس" اريكتين من خشب وكساهما "عبده"، رصهما متعامدتين يجلس الأخير على احداها، منتظرا زوجته التي غابت في الدير، يرشف رشفات متباعدة من كوب الشاي المطعم بالقرنفل وقد فاح ارجه في السقيفة معانقا خيوط الشمس النافذة عبر فتحاتها، حتى تجلى نورها فانسحبت خيوط الشمس تأدبا، وأسبغت وجهها بابتسامة، جاءت شاحبة مرغمة، جلستهم لا ينقصها سوى خالها الريس استوبينة.

واساها عم "جداوي" في مرض خالها الريس استوبينة، لم يلحظ ارتباك "عبده" ووجهه الذي اربد، رفعت حاجبيها المشكلين على الرقم ثمانية في دهشة، واكتشف “جداوي" متأخراً جهلها بالأمر. لم يقل لها "عبده" انه حاول زيارته وان “عم جداوي" جس نبض "ماجد" في زيارتها وزيارة "عبده" ولكنه رفض.

هل غيرتنا الأيام هكذا يا صديقي؟

قالها "عبده" في نفسه عندما تذكر "ماجد"، أعز الأصدقاء، والعمر الذي كان.

لم تنتزعها المطبات الصناعية والطبيعية المتناثرة بطول طريق "الأوتوستراد" من افكارها وسلامها الروحي الذي اكتسبته بعد زيارتها للدير لولا مرض خالها وقلقها عليه، راقبت زوجها الذي جلس خلف عجلة القيادة، تطلعت الى الآيات القرآنية المعلقة على جانبي مرآه المنتصف، والورقة المعلقة فوقها وقد خط عليها 

" الارامل واليتامى لا أجرة عليهم وأجرنا على الله " 

نفس الجملة المكتوبة على ظهر الحافلة، أكثر ما جذبها اليه، قلبه الممتد على اتساع الكون، لامست انامله التي تقبض على ناقل الحركة، بادلها ابتسامة بطعم الورد عانقت جيدها، فابتسمت كما اعتادت ولكن تذكرت مرض خالها، فاضطربت وفض غزلها   أدركت ان سلامها الروحي لن يتمم ليلته، ما دام في الدنيا أناس ترمي الشوك في طريق الالام.   


السعر 65 جنية

ISBN: 978-977-786-199-1

إرسال تعليق

أحدث أقدم