قراءة نقدية بقلم الأستاذ Baher SOliman رواية يتيهون فيها

 قراءة مدهشة بقلم أستاذ Baher Soliman ، حقيقي داوت وحشتي في ظل الصمت المطبق حول الرواية ممن اقتنوها ومن الوسط الأدبي عموما..

.....

في زمن التيه تنسحق أرواحنا ولا يبقى من ذاتنا إلا مجرد بقايا بشر محمّل بميراث ضخم من الظلم والقهر والآمال المجهضة، فنغدو صورًا منمقة، لكن تظل ضمائرنا تذكرنا دومًا بالحقيقة، بأننا مجرد صور لا تمت للحقيقة بصلة، ومع تلك اللحظة التي تنهار فيها تلك الصور الزائفة= يبدأ الخروج الفعلي من زمن التيه الذي يُشكٌل هنا في هذه الملحمة الرائعة التي كتبتها الأديبة المتمكنة نهلة الهبيان ثلاثة مسارات سردية مؤلمة، تبدأ بالاستشراف المستقبلي ثم ترتد للماضي رويدًا رويدًا، فمع كل مسار سردي كان الماضي حاضرًا  حيث التوغل إلى أعمق نقطة في بناء الشخصيات.


لقد استطاعت نهلة الهبيان  تجاوز كل سلبيات عملها الأول، فقد قللت كثيرًا من التكتلات المصطلحية واللغوية التي تقطع تسلسل السرد، لكنها - مع ذلك- حافظت على حيوية اللغة وجمالها وانسيابيتها، كما أنّها أبدعت في النزول بمستوى الديالوج- على قلته- إلى مستوى الشخصيات وبناءها، ومن هنا نلاحظ هبوط مستوى الحوار عند القروية البسيطة " آمنة" عن مستوى الحوار المرتفع عند الطبقة المثقفة مثل " وفاء" و " رحمة" و " آسيا" وغيرهن، كما أن دخول بعض المصطلحات العامية - على قلتها- في بنية بعض الحوارات السردية كان موفقًا وأضفى على النص مصداقية وواقعية وحيوية.


يمكن أن يُقال أن الجانب السيكولوجي في الرواية هو العمود الأساس لها كما في رواية السراب للأديب الكبير نجيب محفوظ، إلا أنّ محفوظ ربط الجانب السيكولوجي بالجانب الاجتماعي لمصر في أربعينيات القرن الماضي، بينما هنا نهلة الهبيان تربط الجانب السيكولوجي بالجانب الاجتماعي والسياسي لمصر عبر الماضي والحاضر والمستقبل، من خلال ثلاثة مسارات سردية، تبدأ مع " وفاء" ثم زوجها " رفيق" ثم ابنتهما " آسيا". يمثّل كل مسار سردي بناءً سيكولوجيًا واجتماعيًا وسياسيًا مؤلمًا، وتأتي ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١م كخلفية مبهرة لتلك المسارات السردية. هذه الرواية- بتصوري- ليست تأريخيًا للثورة المُجهَضة والآمال المُنتكِسة وما بعدها من واقع مؤلم ومرير فقط، هي تأريخ لسيرة أسرة مأزومة نفسيًا ارتضت لنفسها العيش داخل أطر مزيفة، فلما جاءت الثورة تشظّت تلك الأطر المزيفة، وبقيت حقائق النفوس عارية بلا رتوش ولا خرق مهترئة تُداري ما تحاول الحيل النفسية ستره.


لقد جاء البناء النفسي للشخصيات رائعًا، فالدكتورة وفاء الزوجة القروية  عاشت بلا إرادة حقيقية سواء في اختيار زوجها أو في خضوعها المُطلق لتحكّمات زوجها " رفيق" حتى تمنّت أن لو كانت قوية مثل ابنتها " آسيا". إن الديالوج النفسي للزوجة وفاء من أقوى  ديالوجات الرواية، فمنحنى الصعود والهبوط في بناءها النفسي كان مبهرًا، من الشابة التي أحبت صادق ورفضته أمها لأسباب نفسية ستتضح فيما بعد، إلى الزوجة المقهورة ثم الزوجة المطلقة. ومن القرية المصرية إلى السعودية إلى لوس أنجلوس حيث وفاء جديدة، تقلبات نفسية مؤلمة ومبكية صاغتها وحبكتها نهلة الهبيان بحرفة عالية.


وإذا كنا قد كرهنا " رفيق" في المسار السردي الخاص بوفاء، إلا أنّه لا يسعك إلا أن تتعاطف معه في المسار السردي الخاص به، فرفيق هو المأزوم نفسيًا منذ صغره، منذ أن شاهد عمه وهو يراود أمه آمنة عن نفسها، ثم موت أبيه بسبب ذلك، وأكل عمهم لحقهم في الميراث، لقد رأى رفيق في زوجته وفاء صورة من أمه المظلومة، فأخرج كل مكنوناته النفسية المكبوتة فيها، ثم بات رجلًا بلا قلب، فإذ به يتعرض للظلم والسجن والتعذيب في الفترة الانتقالية، ثم موت أمه وهو في السجن= ما جعله بالنهاية يتغير، يؤمن بما فعله الثوار بعد ما كان يكفر بالوطن والتغيير، لقد استطاعت الرواية من خلال هذا المسار السردي تعرية الظلم والبشاعة التي حدثت على يد العسكر في الفترة الانتقالية.


يأتي المسار الأخير وهو مسار " آسيا" الذي يربط الماضي بالمستقبل، فمن آسيا طالبة الجامعة الثورجية في ٢٠١١ إلى آسيا الجدة في المستقبل التي ستموت في نفس ذكرى ثورة يناير، تعرُّجات نفسية لا بأس بها في هذه الشخصية، وكيف تحولت للدفاع عن أبيها والبحث عنه أسوة بأختها رحمة، وكذا هناك مشاهد مؤلمة نفسيًا وهي تحاول مع أختها التوفيق بين رفيق ووفاء بعد أن انهارت حصونهما المنيعة بفعل الزمن، ثم موت رحمة الذي أثّر في الجميع، كما أن زواجها من سوري ضحية من ضحايا الثورة هناك ، يخدم فكرة الرواية العامة عن تأثير الثورات المجهضة على الشعوب اجتماعيًا ونفسيًا. تنتهي الرواية مع موت آسيا في المستقبل، وظهور حفيدة لها وهي " رحمة" التي تبدأ في تدوين تاريخ الأسرة وحلم الثورة المجهضة، بينما قد تأمرك بقية الأحفاد وأصبحوا أمريكان لغة وهوية وجنسية.


جاء وصف المشاعر والأحاسيس طاغيًا على أي وصف آخر، و بدت التراكيب اللغوية كأنها قطعة بلاغية صاغها قلم أديب متمكن، الرواية ممتازة وممتعة، عابها فقط الرتم البطيء في بدايتها قبل أن تتسارع الأحداث ويتم إحكام عُقد الشخصيات النفسية قبيل مرحلة التشظي التي ربما تكون بداية ..فقط بداية لمحاولة الخروج من زمن التيه.


ISBN : 978-977-786-252-3

السعر 80 جنية 



إرسال تعليق

أحدث أقدم