سفر الريح - الروائية الليبية عزة رجب سمهود - قراءة نقدية للدكتور يسري عبد الغني

 سفر الريح

رواية عزة رجب سمهود

بقلم / د. يسري عبد الغني

​بداية نُقرِّر أن الزخم في الإنتاج الروائي أو الكم الكبير الذي نجده مطروحًا على ساحتنا الثقافية يؤثر بالسلب في جودة الإبداع الروائي بوجه عام؛ وذلك لأن البعض يُساير ما يطلق عليه عصر الرواية أو زمن الرواية دون امتلاكِ أدوات الفن الروائي الحقيقي وآلياته.
​وسعادة القارئ تكون عندما يعثر وسط هذا الزخم على عمل يقول لنا شيئًا مذكورًا أو يجمع في جلاء بين الموضوعية والجمال الفني، وقد وجدتُ ذلك في تلك الرواية التي عنوانها (سفر الريح) للمبدعة الليبية الأستاذة / عزة سمهود .
​وقبل أن نواصل حديثنا أظنُّ أن دور النشر في بلادنا مسئولة مسئولية كاملة عن سوء بعض الأعمال الروائية التي تطرح للقراء، ونتمنى التدقيق والتأني بحيث لا ننشر الغث الذي -دون شك -سيؤثر في الإبداع الحقيقي، والناشر الأستاذ / حسن غراب يحاول قدر الجهد والإمكان أن يقود حركة تصحيحية في مجال حُسن اختيار الأعمال الإبداعية بوجه عام والروائية على وجه الخصوص من أجل طرح الجيد البنَّاء الذي يرتقي بالعقل والوجدان، وهذا ما لاحظته في العمل الذي نقرؤه معًا، ​في (سفر الريح) الذي تهديه الكاتبة / عزة سمهود إلى أولئك النبلاء والنبيلات، التي لا يسع قلبها إلا أن يشكرهم، وهذا إن دلَّ فإنما يدلُّ على أن الكاتبة تقدر قيمة النبل والعطاء في زمن اللا نبل واللا عطاء، والنبل يعني أعلى قيم الإبداع .
​أما أن تحاول الكاتبة أن تقول لنا إن شخصياتها في الرواية خيالية، ومستوحاة من الواقع، فهذا أصبح أمرًا معادًا ومكرورًا نجده في معظم الروايات، والذي يؤكد ذلك أو ينفيه قُرَّاء العمل، أو مُقاربات النقاد في بعض الأحيان، ولكن الذي نتفق فيه معها أن شخصياتها سافرت بالفعل عبر أزمنة الريح، وتاهت في مسارب الغبار، حتى وقتنا هذا، وأن روايتها ليست رواية واحدة، بل إنها ثنائية في كل معانيها ..
​سفر الريح التي نقف أمامها رواية جيدة ومتميزة، ولكننا سنحاول الوقوف أمامها دون أن نحاول أن نلخصها أو نكشف عن مضمونها، حتى نترك الفرصة للقارئ المِفضال أن يقرأ بنفسه ويحكم على العمل، فالقارئ سيظلُّ دائمًا هو السيد المطاع، وصاحب الأمر والنهي في الحكم على أي إنجاز أدبي، مع كل الاحترام لكل نقادنا الأفاضل، والعلاقة ستظل قائمة دائمًا وأبدًا دون انفصام بين القارئ والمبدع الذي هو صاحب العمل الذي يحمل خلاصة فكره ووجدانه، وهذا ما نراه عبر سطور (سفر الريح) .
تقول لنا الرواية إنه في هذا التوقيت الصعب، تنتشر الفوضى الخلَّاقة المُرتَّبة، بطريقة أكثر تفننًا في صناعة أفكار غير صالحة للنمو في الربيع، فالربيع الذي زرعناه نحن ذهب مع الريح، أو ربما خرج ولم يعد، وبلا حصاد حضاري لمواسم الفرح، والعُرس الجماعي لدول الربيع، حصدنا المعاناة والمزيد من الألم، وكان ذلك عقوبة التمدُّد للحلم.
​سفر الريح تقول لنا: بعد فصل الربيع تغيرت المعطيات، وتغيرت المعادلة، وتغيرت ثقافة الأسئلة، وعليه فالمطلوب منا أن نغير أفكارنا من جديد، مع إعادة كتب الفلسفة إلى الرف العلوي، فلن تفهم هذه الحياة قبل أن تتدرج في استيعاب أبسط نظرية وأتفهها تقع في أقرب رف لمتناول عقلك.
​ومن هنا كان من الضروري ـ كما تذهب بنا الرواية ـ أن تعيد تدوير المؤامرة في رأسك، وتصدق أنك تحولت لأضحوكة متجعدة جدًّا، ومُزحة من العيار الثقيل، بهذه الدموية التي تقترفنا في شراهة مقيتة، وإنك ببساطة مواطن شاركَ دون عِلمه، أو بعلمه في حفل تنكري ضد الوطن!
​(إناث) بطلة الرواية أو كما أطلق عليها (عمر قاسم) حبيبها ثم زوجها، تعلن لنا معاناة المرأة العربية عبر العصور، فنتجول معها في تاريخ ليبيا طولًا وعرضًا، ورغم ذلك لا نشعر أن تلك المُحبِّة المخلصة والوطنية المنتمية لأرضها، لا نشعر لحظة واحدة أنها تتمرد لأنها تدمن التمرد أو تريد أن تدخل إلى دائرة (الشو) النسوي الذي نسمع عنه صباح مساء. ​ولكن هل التجوال عبر تاريخ ليبيا في الرواية يجعلنا أمام رواية وثائقية أو تاريخية؟ بالطبع يمكن أن يكون التوثيق من وجهة نظر المبدعة أو البطلة أو فلنقل رصدها لما تراه من تطورات تُشكِّلها الأحداث السياسية والاجتماعية التي مرت وتمر بها بلادنا، أما التاريخ فأمر آخر له قواعده وأصوله ومناهجه، الكاتبة ترصد، فتأخذنا إلى المطب الهوائي الكبير، وإلى الجوزائيات، وإلى سيدات المزاج المتغير الفاتنات الجميلات الذكيات، وهذا ما يجعل الحياة شبقًا تفاعليًّا، وتمرُّ الأيام والسنون، وتأتي أيام قد لا تشبه سابقتها، ويكون اللقاء مع الحبيب أو المحبوب بعد شوق، أو بعد سنوات خشيت فيها البطلةُ أن تُشبِهَ البقرة، ولكن يتجدد اللقاء فتجدد الحياة، لنجد أنفسنا في سقوط مريع عبر حقبة العصر الحجري .
​نعيش مع الصادق النيهوم، الكاتب الثوري المتميز، ويكتب الحبيب إلى البطلة (إناث) رمز المرأة العربية المخلصة الصادقة، وتتزوج عمر قاسم، لتعلم وتُعلِّم أشياء، فتدين تحولنا إلى لصوص أو عملاء أو تجار، ليكون الرمل الغائب في سحنات الريح، ونستمع إلى ما يرويه المنسي لنعرف أننا أمام مبدعة قارئة واعية بالأدب الحديث في مختلف أنواعه وأصنافه .
​حقًّا، لكلٍّ منا رصاصة رحمة في حياته، فهل من ضوء نلعن به ظلام أيامنا؟! وعلى الجميع أن يعلم أنه لا يوجد انتصار حقيقي في الحرب، وليكن في علمنا أن هناك وظائف ووظائف أخرى لأدوات النفي، ونعيش مع سمر وفريدة، والأحلام التي بالمجان والأحلام الأخرى التي لها ثمن، ومن المهم أن تعرف كيف تُقاوِمُ موتك، وتعيش في منافي الألم ثم تعود منها .
​تعيش في سفر الريح، وفي السجن الكبير، ولكن عليك أن تتسلح بالأمل، والإيمان بالقادم مهما تكن الظروف والأحوال، فمن العار كل العار ألَّا يمكنك أن تأكل رغيف خبز محليًّا، وتلك وحدها قضية يحلو لنا أن نسجلها ضد مجنون مجهول في معظم الأحيان.
​عزة سمهود كاتبة تعي أن فن القصة أصبح لونًا فنيًّا يجب أن نراعي قواعده وأصوله، ومن هنا جعلت روايتها ميدانًا خاصًّا خصبًا لوصف تاريخ ليبيا، جامعةً بين الماضي والحاضر في صور مختلفة، فقرأنا معها الخير والشر، الكفاح والحب، البغض والوفاء، مشكلاتنا بوصفنا مجتمعًا عربيًّا، أشخاص وأشخاص يعكسون على مرآتهم صور الحياة التي تعبر عن هذه المشكلات. الكاتبة نجحت في أن توظف مادة عملها القصصي بمصادره المختلفة في التعبير عن فكرها أو ما تريد أن توصله إلى الناس، كل ذلك بعرض الحوادث والمواقف، والشخوص التي تتعرض للمواقف والأحداث، والبناء السردي بما يشمله من حوار ووصف عبر الزمان والمكان والفكر والمغزى.
​وشخوصها سواء أكانت أساسية أم ثانوية تنجح في أن تضفي عليها البعد الظاهري المتمثل في التكوين الجسدي والملامح البارزة في الشخصية، وكذلك البعد الباطني المتمثل في التكوين النفسي والطبائع المميزة للشخوص التي نعيش معها عبر العمل الإبداعي . ​والرواية التي معنا يمكن أن نجعلها من الروايات التي تجمع بين الرومانسية والواقعية والاجتماعية والوثائقية، في الوقت نفسه الذي تنجح فيه المؤلفة أن تستخدم وسائل وتكنيكات روائية عديدة، مثل القطع، وتيار الوعي، والمنولوجات والديولوجات . ​أما بالنسبة للغة فلغتها واضحة سهلة مفهومة، لغة تبعد عن التعقيد أو الغموض، وحتى وإن وردت في سياقها بعض الكلمات العامية فهي مفهومة وغير مستهجنة، وقد نجحت في أن تستخدم الدلالات اللغوية بكل ما فيها من إيحاءات لتعكس ما تريد من فكر خلالها، أضِفْ إلى ذلك قدرتها على رسم لوحات تعبيرية تجمع في ذكاء بين أشكال اللون والصوت والحركة .
هذه كلمة عابرة أردتُ أن أكتبها للمبدعة الأستاذة / عزة سمهود عن روايتها الممتعة المهمة (سفر الريح )، التي تمتلك مقومات الفن الروائي وأصوله في زمن تجاهَلَ فيه العديد ممن يتصدون للفن الروائي كل قيم الفن الروائي ومفاهيمه، والذي نحذر أننا لو استسهلنا الأمر وظللنا في حالة الفوضى الروائية هذه، فإن ذلك سيؤثر - دون شك - بالسلب في مستقبل فن الرواية.
تحيةً إلى المبدعة التي تمتلك أدواتها الفنية الأستاذة / عزة سمهود، وفي انتظار العديد من الأعمال لها، وتحية إلى الناشر المثقف الأستاذ / حسن غراب الذي يعي دَوْرَ النشر في الإعلاء من القيم الأدبية، كما يعي أن الأدب تنمية وبناء، ورُقي بمشاعر الناس، وسمو بغرائزهم، وتعليمهم القيم الفاضلة، ليتنا جميعًا نعي ذلك ونلتزمه .
May be an image of outdoors and monument
ISBN : 978-977-786-118-2

إرسال تعليق

أحدث أقدم