يتيهون فيها رواية الكاتبة نهلة الهبيان

يتيهون فيها 
رواية نهلة الهبيان 
قراءة نقدية

إبراهيم أحمد أردش

توظيف تقنيات المونتاج السينمائي في رواية يتيهون فيها(1)
إن فن الرواية قد صار فنًا جامعًا، حيث أصبح بمقدوره جمع العديد من الأنواع الأدبية والأجناس الفنية في متنه، فالقارئ للرواية قد صار يجد بداخلها الشعر والأغنية، وكذلك القصة القصيرة والحوار المسرحي، بل والفن التشكيلي، وما السينما عن ذلك ببعيد، بل صار الفن السينمائي والروائي متسقين، لا على سبيل تجسيد الروائع الروائية سينمائيًا فقط، بل بوجود آليات السينما داخل معمار الرواية ومن هذه الآليات آلية المونتاج، وهي الآلية الأهم في الفن السينمائي، ومن الروايات التي استثمرت تلك الآلية رواية "يتيهون فيها" للكاتبة المصرية نهلة الهبيان.
ويمكن تعريف المونتاج السينمائي بأنه "اللصق المادي لقطعتين منفصلتين من الفيلم، وبلصقهما معًا فإن هاتين القطعتين تصبحان مشهدًا له معنى محدد. وحرفة المونتاج السينمائي هي لصق قطعتين من الفيلم معًا لتعطيا معنى ليس ظاهرًا في أي من القطعتين"(2 )
ونعرض هنا لبعض تقنيات المونتاج التي جاءت في متن الرواية
1-المونتاج باستخدام تقنية المزج وهي "خاصية مونتاجية تعتمد على عرض مشهدين أو عدد من المشاهد تتشابه من حيث طبيعة الحدث والجو العام"(3) ويمكن أن نمثل لهذه التقنية في رواية يتيهون فيها بهذا المشهد:
"بمجرد أن توقفت عجلات السيارة انطلقت خارجها دون انتظار لمساعدة أحد ذهبت آلام الروماتيزم فلا عمل لها اليوم في جسدها، حتى عكازها نسيته، انطلقت خلفها أناديها فلم تسمع، أو سمعت ولم تجب، هي ليست هنا إنها في واد آخر بدنيا أخرى لا أثر منها إلا دموع صامتة في حضرة الصخب المشبع به المكان، تدور حوله" (ص10)
إن الراوية تروي مشهد جدتها وهي تطوف حول ميدان التحرير، وقد نسيت الأمراض التي تحاصرها، كأن الذاكرة الثورية المتعلقة بهذا الميدان الذي مرت عليه كل الثورات المصرية في العصر الحديث من الملكية إلى الجمهورية، قد جعلت المرأة العجوز شابة قوية، وفي المشهد ذاته وعن طريق استخدام التشبيه، نجد الراوية قد أحدثت مونتاجًا بالمزج عن طريق عرض حدث مشابه لا علاقة له بالحدث الأول مكانيًا أو زمانيًا وهو طواف المسلمين حول الكعبة
"أعادني دورانها إلى مشهد الحجاج وهم يطوفون حول الكعبة" (ص10)
لقد أرادت الكاتبة إضفاء جانبًا من القداسة على هذا الميدان الذي يمثل قلب القاهرة النابض بأن شبهت الطواف حوله بالطواف حول الكعبة، كأنها أرادت أن تنزل حب الوطن منزلة العبادة في تناص من غور بعيد مع قصيدة الرافعي التي يقول فيها:
"اسلمي يا مصر إنني الفدا ذي يدي إن مدت الدنيا يدا
أبدا لن تستكيني أبدا إنني أرجو مع اليوم غدا
ومعي قلبي وعزمي للجهاد ولقلبي أنت بعد الدين دين
لك يا مصر السلامه وسلامًا يا بلادي
إن رمى الدهر سهامه أتقيها بفؤادي واسلمي في كل حين"
2-المونتاج باستخدام تقنية الازدواج "وتقدم هذه الخاصية مجموعة اللقطات المتماثلة في مجريات الحدث، أو المعطيات الدلالية والتي لا تكون أية علاقة بينهما، ليشكل من حاصل جمعها مضمونًا واحدًا" (4)
ومن أشكال هذه التقنية في الرواية المشهد التالي، حيث تعرض الشخصية لحدث زواجها
"أسير فيها الآن لا أملك إلا نفسي الهائمة؛ لأبحث عن وفاء لعلها تكون عالقة في أي من طروحها، وفاء التي تهيأت وهيأت قلبها وعقلها لرجل ساقه القدر في طريق أنوثتها لتكون من نصيب ملكيته، طلبها للزواج أو بالأحرى طلبتها أمه للزواج؛ فتزوجته" (ص20)
ثم تعرض لموقفها حينما تقدم لها:
"ولما سألتها أمها عن رأيها فيه، لم تكن تعرف الإجابة؛ لكنها استشفتها من عين الأمومة حيت التمعت بالرضا فارتضته! استحثتها الأم على الكلام فقالت يبدو عليه شاب طيب، لم أستبن منه عيبًا، طبيب مثلي ومؤكد أن امتهاننا نفس المهنة يجعلنا متقاربين" (ص20)
يقدم المشهد صورة للزواج الذي يظهر متوافقًا من الخارج، لكنه غير متسق من الداخل، هو زواج شكلي يأخذ بالمظهر ويترك الجوهر، فكونهما يعملان في الحقل الطبي، يظن من ينظر للأمور على نحو سطحي أنهما سيعيشان حياة مسقرة، لكن الحقيقة لم تكن كذلك؛ فالشهادة الجامعية وحدها لا تشفع، لكي تكون الحياة الزوجية مستقرة.
ومن أشكال هذه التقنية ما جاء في هذا المشهد أيضًا:
"كنت أحفظ الكثير من المواد عصية الفهم وأنا بالجامعة، كلما راودتني نفسي للبوح بما يختلجني أنهرها؛ فأصمت ولا أنبس! لا معين لي على سبك كلمات تعبر عن حالتي فلربما نغتم ولا نستطيع أن نضع أيدينا على السبب الذي ألقى علينا هذه الغمة، ربما لأني كنت أتحرى بدقة وصفة أمي" (ص23)
فتعرض الراوية لحفظها للمواد واهتمامها بدراستها، ولم تمثل الفترة الجامعية لها فترة عشق وحب كما يحدث للكثيرات، ويرجع ذلك إلى أن أمها كانت تنهاها ضمنيًا عن الحب
"لم تتلفظ أبدًا بكلمة حب، لكنها كانت تقول العشرة، الحياة، البيت" (ص23)
إن الأم شخصية عملية، وكأنها لا تلقي للمشاعر بالًا، تري الحب متمثل في الجانب المادي أكثر من الشعوري، ما جعل الفتاة تختار شابًا متوافقًا معها فقط من الناحية العقلية أو هكذا خيل لها.
3-المونتاج باستخدام القطع وهو "الانتقال من لقطة إلى أخرى دون فعل ارتباطي (مزج صورتين بنقل الواحدة تدريجيًا إلى الأخرى" (5) ومن المقاطع الروائية التي برزت فيها هذه التقنية على نحو جلي هذا المقطع:
"نزلت رحمة وأكملت وآسيا الكلام حتى أمسك النوم الألسنة دون أن ندري متى توقفنا، غرقت في سكينة لم تخلق لمثلي من قبل تجلت لي الصور على وجوه غير التي أعرف، عناق الأحبة صوفيها وصغيرها على ذراعها قرير العين وإلى جوارها زوجها العائد من غيابه، ضحكاتهم تطرب الدنيا أن زيدينا، سمعت صوت قلب أم حبيبة بعدما سر بشفاء ابنتها التي ارتجتها من الدنيا، لا تزال تدعو لي ولرفيق، رأيت أبي وأمي حول نار الحطب المشتعلة في الموقد بليلة قارسة البرودة، يغازلها على ضوء النار المنعكس على وجهها الأبيض فتشربه حمرة لامعة يهمس بها "أصغر من بناتك يا رحمة، شهية أنت ومحسوبك جعان" تخجل وتداري وجهها في طرف طرحتها، تدفع ذراعه الممتدة إليها يلكزها وترده "اختشي يا راجل عيب عليك بناتك عرايس" (ص109 باختصار)
فقد جمع المقطع عددًا من اللقطات لا يوجد بينها وبين بعضها أي رابط على نحو متسلسل تسلم كل لقطة للأخرى، كذلك هذا المشهد الذي جمع رفيق بأمه في السيارة وهو يتحدث معها:
"واصلت أمي كلامها متغاضية عن فورتي التي أوقن أنها لا تعرف عنها شيئًا، موضحة قناعتها بأن الأمور ستجري وفق ما خططت" (ص232)
لتقطع الام الحدث وتعرض لمشهد وفاء وهي تزورها في المنيل:
"من يوم ما البنت زارتني في المنيل حتى تنهي إجراءات تسجيلها في المدينة الجامعية وأنا تمنيت تكون بختك يا رفيق، حتى لو كنت تشوف رعشة إيديها وخوفها وهي داخلة البيت تعرف يا بني أنها عجينة مختلفة تمامًا" (ص232)
الأم تختار لولدها عروسًا كما تريد، لا كما يريد ومن ثمّ كان زواجًا فاشلًا رغم حسابات الأم الدقيقة
4-المونتاج باستخدام تقنية الظهور والاختفاء
أخذت الكثير من الشخصيات في الظهور والاختفاء في متن الرواية مثل شخصية صادق الضابط العاشق الوفي الذي لا يطمع في شيء غير رضا وفاء عنه، فهي تمثل له الوطن الذي ينبغي حمايته من كل شر، وقد كان مطيعا لولي أمر وفاء في كل شيء فقد كان مطيعا لوالدها ثم لزوجها، في إخلاص وتجرد تام، لا هم له سوى حماية وفاء حتى من نفسها.
5-أثر المونتاج على الكثير من تقنيات الرواية وصنع العديد منها، فانتقاله من زمن إلى زمن صنع تقنية الاسترجاع، وكذلك التنقل بين مكان ومكان عن طريق المكالمات التلفونية والتي حدثت كثيرًا في الرواية، كذلك أثر على الحوار ونعرض لهذا الحوار بين وفاء ونفسها
"—فمن تكونين يا وفاء لتهاجري إلى أول الرحلة وتتجرعي من جديد أول الغصص؟
-وما الذي يستعدي وجود هذا الفكر من الأساس؟
--وما الذي يستدعي وجود هذا الفكر من الأساس؟
--طلقني ولا أعرف لم؟ بعد كل هذا الصنيع الذي صنعته معه وله.
--أتحملين له في قلبك حبًا؟
--ليس بالحب الذي غبن في مهده الأول، إنها العشرة التي وصفتها أمي واجتهدت أنا بتسميتها الحب.
حتى هذه هو لا يستحق منك أن تفكري بها فهو لم يراعها." (ص24)
ومن ثمّ فقد أثرى المونتاج الحوار، حينما أعاد مشهد طلاق وفاء وحياتها الزوجية.
وقد يتآزر الحوار والمكان في بناء المونتاج، كما ورد في هذا المقطع الحواري بين آسيا ورحمة وعمهما، حيث العم في مصر وآسيا ورحمة في الولايات المتحدة ويتكلمون هاتفيًا وبالتالي فإن القارئ يتخيل عين الكمرة تنتقل بينهما لترصد انفعال الشخصيات:
"—الست آسيا، أهلا وسهلا، الآن اتضح لي كل شيء، أنا كنت شاكك فيكم وفي سفركم وترككم لأبيكم
-عمي أنا رحمة، رجاء تكلم بهدوء، نحن لا نعلم أي شيء عما تحكي عنه" (ص264 باختصار)
"—هذا عنكم وماذا عني؟
-وما دخلك أنت بنا؟ نحن لم نطلب منك أي مساعدة المفترض أصلًا أنها واجبة عليك تجاه أخيك
--أنا لم أقل ذلك، أنا فعلت أقصى ما في جهدي.
- عمي لا تكمل كلامك هذا، فهو كذب في كذب، أنت تخليت عن أخيك، في حين أن الست التي أتيت لتهاجمها في بيتها تحملت الكثير، وكان جزاؤها طلاقها
--أمك، أنا شاكك بالأساس أن أمك وراء كل ذلك، كنت متأكد أن طلاقها وراءه شيء خفي، رفيق محال أن يطلقها من تلقاء نفسه" (ص265 باختصار)
إن تقنيات المونتاج السينمائي كثيرة في هذه الرواية ولم أقتبس إلا عينات قليلة جدا لعرضها وهي موجودة داخل الراوية بكثرة وبأنواع مختلفة، كما أن رواية يتيهون فيها تعتمد على نمط روائي يسمى رواية الأجيال، حيث توجد في الرواية أربعة أجيال مختلفة يمثلون العمود الفقري للرواية وقد كانت الأحداث تتنقل بين الأجيال الأربعة وبالتالي فقد برزت آليات السينما على وجه العموم وتقنيات المونتاج السينمائي على نحو خاص ما أدى إلى ثراء العمل الروائي
إن الأستاذة نهلة الهبيان أديبة كبيرة وصاحبة قلم رصين، روائية متمكنة من أدواتها، نعم قد نختلف حول بعض الرؤى الأيديولوجية وتفسيرات الأحداث الواقعية، لكن تنتفق في حب الوطن والولاء له.
إن نهلة الهبيان تمثل حالة روائية ناضجة ومتوهجة، فقد استطاعت أن تمزج الكثير من عناصر الفنون الأدبية المختلفة داخل أعمالها ليصبح العمل الروائي لديها نصًا جامعا بحق
(إبراهيم أحمد أردش)
--------
الهوامش:
(1) نهلة الهبيان، يتيهون فيها، دار غراب للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2020م.
( 2) كين دانسايجر: تقنيات مونتاج السينما والفيديو، ترجمة: أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة، الجيزة، العدد (1689)، الطبعة الأولى، 2011م، (ص23).
(3) مارية تيقاني، المونتاج السردي واللغة المشهدية في رواية تشرفت برحيلك لفيروز رشام، مذكرة ماستر، كلية الآداب واللغات، جامعة محمد خضير، بسكرة، الجمهورية الجزائرية، 2019، (ص39)
(4) 1-مارية تيقاني، المونتاج السردي واللغة المشهدية في رواية تشرفت برحيلك لفيروز رشام (ص36)
2-أميمة عبدالسلام الرواشدة، التصوير المشهدي في العربي، دراسات وزارة الثقافة، عمان الأردن، الطبعة الأولى، 2015م، (ص279)
(5) مارية تيقاني، المونتاج السردي واللغة المشهدية في رواية تشرفت برحيلك لفيروز رشام (ص45)


السعر 80 جنية

ISBN: 978-977-786-252-3


 

إرسال تعليق

أحدث أقدم